فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني:

{وما جعلْنا أصْحاب النّارِ إِلّا ملائِكة}
لما نزل قوله سبحانه: {عليْها تِسْعة عشر} [المدثر: 30] قال أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلاّ تسعة عشر يخوّفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم يخرجون من النار؟ فقال أبو الأشدّ، وهو رجل من بني جمح: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة، فأنا أمشي بين أيديكم، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، ونمضي ندخل الجنة، فأنزل الله: {وما جعلْنا أصحاب النار إِلاّ ملائكة} يعني: ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلاّ ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، فكيف تتعاطون أيها الكفار مغالبتهم.
وقيل: جعلهم ملائكة؛ لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجنّ والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجالس من الرقة والرأفة.
وقيل: لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له، وأشدهم بأسا وأقواهم بطشا {وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلاّ فِتْنة} أي: ضلالة لِلّذِين استقلوا عددهم، ومحنة لهم، والمعنى: ما جعلناهم عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلاّ ضلالة ومحنة لهم، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم.
وقيل: معنى {إِلاّ فِتْنة} إلاّ عذابا، كما في قوله: {يوْم هُمْ على النار يُفْتنُون} [الذاريات: 13] أي: يعذبون، واللام في قوله: {لِيسْتيْقِن الذين أوتُواْ الكتاب} متعلق ب {جعلنا}، والمراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم.
قاله قتادة، والضحاك، ومجاهد، وغيرهم، والمعنى: أن الله جعل عدّة الخزنة هذه العدّة؛ ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم.
{ويزْداد الذين ءامنُواْ إيمانا} وقيل: المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام.
وقيل: أراد الذين آمنوا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ليزدادوا يقينا إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم، وجملة {ولا يرْتاب الذين أوتُواْ الكتاب والمؤمنون} مقرّرة لما تقدّم من الاستيقان وازدياد الإيمان، والمعنى: نفي الارتياب عنهم في الدّين، أو في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك {ولِيقول الذين في قُلوبِهِم مّرضٌ والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا} المراد بالذين في قلوبهم مرض: هم المنافقون؛ والسورة وإن كانت مكية، ولم يكن إذ ذاك نفاق، فهو إخبار بما سيكون في المدينة، أو المراد بالمرض مجرّد حصول الشكّ والريب، وهو كائن في الكفار.
قال الحسين بن الفضل: السورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، فالمرض في هذه الآية الخلاف، والمراد بقوله: {والكافرون} كفار العرب من أهل مكة، وغيرهم، ومعنى {ماذا أراد الله بهذا مثلا}: أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل.
قال الليث: المثل الحديث، ومنه قوله: {مّثلُ الجنة التي وُعِد المتقون} [الرعد: 35] أي: حديثها، والخبر عنها {كذلِك يُضِلُّ الله من يشاء} أي: مثل ذلك الإضلال المتقدّم ذكره، وهو قوله: {وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلاّ فِتْنة لّلّذِين كفرُواْ}.
{يُضِلُّ الله من يشاء} من عباده، والكاف نعت مصدر محذوف {ويهْدِى من يشاء} من عباده، والمعنى: مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين، يضلّ الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته.
وقيل المعنى: كذلك يضلّ الله عن الجنة من يشاء، ويهدي إليها من يشاء.
{وما يعْلمُ جُنُود ربّك إِلاّ هو} أي: ما يعلم عدد خلقه، ومقدار جموعه من الملائكة، وغيرهم إلاّ هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد.
وقال عطاء: يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدّتهم إلاّ الله، والمعنى: أن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلاّ الله سبحانه.
ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال: {وما هي إِلاّ ذكرى لِلْبشرِ} أي: وما سقر، وما ذكر من عدد خزنتها إلاّ تذكرة وموعظة للعالم.
وقيل: {وما هِى} أي: الدلائل والحجج والقرآن إلاّ تذكرة للبشر.
وقال الزجاج: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة، وهو بعيد.
وقيل: {ما هِى} أي: عدّة خزنة جهنم إلاّ تذكرة للبشر؛ ليعلموا كمال قدرة الله، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار.
وقيل: الضمير في {وما هِى} يرجع إلى الجنود.
ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال: {كلاّ والقمر} قال الفراء: {كلا} صلة للقسم، التقدير، أي: والقمر.
وقيل المعنى: حقا والقمر.
قال ابن جرير: المعنى ردّ زعم من زعم أنه يقأوم خزنة جهنم أي: ليس الأمر كما يقول، ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده، وهذا هو الظاهر من معنى الآية.
{واليل إِذْ أدْبر} أي: ولى.
قرأ الجمهور: {إذا} بزيادة الألف، دبر بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان، وقرأ نافع، وحفص، وحمزة: {إذ} بدون ألف، أدبر بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان ودبر، وأدبر لغتان، كما يقال: أقبل الزمان وقبل الزمان، يقال: دبر الليل وأدبر: إذا تولى ذاهبا.
{والصبح إِذا أسْفر} أي: أضاء وتبين {إِنّها لإِحْدى الكبر} هذا جواب القسم، والضمير راجع إلى {سقر}، أي: إنّ سقر لإحدى الدواهي، أو البلايا الكبر، و{الكبر} جمع كبرى، وقال مقاتل: إن الكبر اسم من أسماء النار.
وقيل: إنها أي: تكذبيهم لمحمد لإحدى الكبر.
وقيل: إن قيام الساعة لإحدى الكبر، ومنه قول الشاعر:
يابن المعلى نزلت إحدى الكبر ** داهية الدهر وصماء الغير

قرأ الجمهور: {لإحدى} بالهمزة، وقرأ نصر بن عاصم، وابن محيصن، وابن كثير في رواية عنه: {إنها لحدى} بدون همزة.
وقال الكلبي: أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها.
{نذِيرا لّلْبشرِ} انتصاب {نذيرا} على الحال من الضمير في {إنها}، قاله الزجاج.
وروي عنه، وعن الكسائي، وأبي عليّ الفارسي أنه حال من قوله: {قُمْ فأنذِرْ} [المدثر: 2] أي: قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيرا للبشر.
وقال الفراء: هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدّر.
وقيل: إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التنظيم كأنه قيل: أعظم الكبر إنذارا، وقيل: إنه مصدر منصوب بأنذر المذكور في أول السورة.
وقيل: منصوب بإضمار أعني، وقيل: منصوب بتقدير ادع.
وقيل: منصوب بتقدير ناد أو بلغ.
وقيل: إنه مفعول لأجله، والتقدير: وإنها لإحدى الكبر؛ لأجل إنذار البشر.
قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ أبيّ بن كعب، وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي نذير، أو هو نذير.
وقد اختلف في النذير، فقال الحسن: هي النار.
وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو رزين: المعنى أنا نذير لكم منها، وقيل: القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد {لِمن شاء مِنكُمْ أن يتقدّم أو يتأخّر} هو بدل من قوله: {لّلْبشرِ} أي: نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى الطاعة أو يتأخر عنها، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل من آمن وكفر، وقيل: فاعل المشيئة هو الله سبحانه، أي: لمن شاء الله أن يتقدّم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر، والأول أولى.
وقال السديّ: لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر إلى الجنة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما سمع أبو جهل {عليْها تِسْعة عشر}. قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدّهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطش برجل من خزنة جهنم؟ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: {وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلاّ فِتْنة لّلّذِين كفرُواْ} قال: قال أبو الأشدّ: خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم، قال: وحدّثت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصف خزّان جهنم فقال: «كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي يجرّون أشعارهم، لهم مثل قوّة الثقلين، يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم».
وأخرج الطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة أسري به قال: فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا، فإذا أنا بملك يقال له: إسماعيل، وهو صاحب سماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف، وتلا هذه الآية {وما يعْلمُ جُنُود ربّك إِلاّ هو}»
وأخرج أحمد عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أصبع إلاّ عليه ملك ساجد» وأخرجه الترمذي، وابن ماجه.
قال الترمذي: حسن غريب، ويروى عن أبي ذرّ موقوفا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {إِذْ أدْبر} قال: دبور ظلامه.
وأخرج مسدّد في مسنده، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: سألت ابن عباس عن قوله: {واليل إِذْ أدْبر} فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان، ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {لِمن شاء مِنكُمْ أن يتقدّم أو يتأخّر} قال: من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {وما جعلْنا أصْحاب النّارِ إِلّا ملائِكة}.
في هذه الآية بيان لما أحدثه قوله تعالى في الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى: {عليْها تِسْعة عشر}- من تعليقات هازئة ساخرة من المشركين..
فكان من سمرهم الذي يسمرون به، هو الحديث عن هؤلاء التسعة عشر الذين يقومون على حراسة جهنم، وكيف يمكنهم أن يمسكوا الناس فيها، والناس أعداد لا حصر لها؟ إن قريشا وحدها كفيلة بأن تكفّ بأس هؤلاء الجند، أيّا كان بأسهم وقوتهم.. بل إن بعض هؤلاء الساخرين منهم ليقول: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم الاثنين!! فجاء قوله تعالى: {وما جعلْنا أصْحاب النّارِ إِلّا ملائِكة} ليردّ على سخرية هؤلاء الساخرين، ويكبتهم بها. إن هؤلاء التسعة عشر ليسوا مجرد عدد، وإنما هم ملائكة.. وإنهم ليعرفون الملائكة، ويتخذون منهم أربابا يعبدونهم من دون اللّه.. فهل لهم بهذا الجند من جند اللّه يدان؟
وقوله تعالى: {وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلّا فِتْنة لِلّذِين كفرُوا} أي ما ذكر اللّه عدة هؤلاء الجند، وحصرهم في تسعة عشر، دون أن يبلغوا العشرين، مثلا، ليكونوا عددا كاملا- ما ذكرهم اللّه، وحصر عددهم في هذا العدد، إلا ليمتحن بذلك إيمان المؤمنين، وضلال الضالين، وقد كشف هذا الامتحان عن فتنة المشركين الذين اتخذوا من هذا العدد سبيلا إلى التفكّه، والتندر، والاستهزاء..
وقوله تعالى: {لِيسْتيْقِن الّذِين أوتُوا الْكِتاب ويزْداد الّذِين آمنُوا إِيمانا} إشارة إلى أن أهل الكتاب قد وجدوا أن ما أخبر به القرآن عن عدة أصحاب النار، من الملائكة مطابق لما عندهم من كتب اللّه.. كما أن المؤمنين سيزدادون إيمانا بما جاءهم من عند اللّه مصدقا لما في الكتب السابقة..
وفى التعبير بالاستيقان في جانب أهل الكتاب، وبازدياد الإيمان في جانب المؤمنين، مراعاة لمقتضى الحال في كلّ من الفريقين.. فأهل الكتاب- والمقصود به من أهل الكتاب هنا، هم أولو العلم منهم، الذين سلموا من الهوى المضل، الذي أفسد على كثير من علمائهم دينهم- فأهل الكتاب هؤلاء، يبعث فيهم هذا الخبر الجديد الذي جاء به القرآن- يقينا بأن ما يتلقاه محمد، هو وحي من عند اللّه.. هذا إلى ما كان عندهم من علم، بهذا النبي، المبشر به في كتبهم، والمبينة صفاته فيها..
وأما المؤمنون، فهم مؤمنون بصدق الرسول، من قبل نزول هذه الآيات، ومن بعد نزولها.. ولكنهم يزدادون إيمانا كلما تلقوا من آيات اللّه جديدا، يثبّت إيمانهم ويزيدهم قوة استبصار لمعالم الحق.. وهؤلاء المؤمنون، هم الذين آمنوا إيمانا خالصا من شوائب الشك والارتياب..
وقوله تعالى: {ولا يرْتاب الّذِين أوتُوا الْكِتاب والْمُؤْمِنُون}.
والذين أوتوا الكتاب هنا، هم مطلق اليهود والنصارى، وليس الذين ذكروا من قبل، والذين هم خاصّة علماء أهل الكتاب.. وكذلك المؤمنون هنا، هم الذين لم يقع الإيمان بعد موقعا متمكنا من قلوبهم.. فهؤلاء وأولئك ليس من شأنهم أن يرتابوا بعد هذا الذي جاء في آيات اللّه من أنباء الغيب عن عدة أصحاب النار، بعد أن تطابق هذا مع ما في التوراة..
وقوله تعالى: {ولِيقول الّذِين فِي قُلوبِهِمْ مرضٌ والْكافِرُون ما ذا أراد اللّهُ بِهذا مثلا}- الذين في قلوبهم مرض هم المنحرفون من علماء أهل الكتاب، الذين غلبهم الهوى على كلمة الحق أن ينطقوا بها، والكافرون، هم المشركون الذين مازالوا على شركهم.. فهؤلاء، وهؤلاء، يتخذون من قوله تعالى: {عليْها تِسْعة عشر}- مادة للاستهزاء، والسخرية.. كأن يقولوا مثلا: ما هذه التسعة عشر؟ ولما ذا لم تكن عشرين؟ {ما ذا أراد اللّهُ بِهذا مثلا} وقد ردّ اللّه على تساؤلهم هذا بقوله سبحانه: {كذلِك يُضِلُّ اللّهُ منْ يشاءُ ويهْدِي منْ يشاءُ وما يعْلمُ جُنُود ربِّك إِلّا هو وما هِي إِلّا ذِكْرى لِلْبشرِ}.
أي هذه الأمثال التي يضربها اللّه للناس، هي مضلة لبعض الناس، كما أنها هداية لبعضهم.. فمن نظر إليها بقلب مريض، وبصر زائغ، لم يروجه الخير والحق فيها، وارتد إلى الوراء مرتكسا في متاهات الغواية والضلال.. ومن جاء إليها بقلب سليم، وعقل محرّر من الهوى- رأى الطريق القويم إلى اللّه، فسلكه، واستقام عليه.. وهذا مثل قوله تعالى: {إِنّ اللّه لا يسْتحْيِي أنْ يضْرِب مثلا ما بعُوضة فما فوْقها فأمّا الّذِين آمنُوا فيعْلمُون أنّهُ الْحقُّ مِنْ ربِّهِمْ وأمّا الّذِين كفرُوا فيقولون ما ذا أراد اللّهُ بِهذا مثلا يُضِلُّ بِهِ كثِيرا ويهْدِي بِهِ كثِيرا وما يُضِلُّ بِهِ إِلّا الْفاسِقِين} (26: البقرة).
وقوله تعالى: {وما يعْلمُ جُنُود ربِّك إِلّا هو} هو ردّ على المستهزئين الساخرين، الذي اتخذوا من عدد التسعة عشر مادّة للاستهزاء والسخرية، حتى لقد بلغ بهم القول بأن اللّه لا يملك من الجند إلا هؤلاء التسعة عشر، ولو كان يملك أكثر منهم لجعلهم عشرين لا تسعة عشر.. وكذبوا وضلوا، فإن جنود اللّه لا حصر لها، ولا يعلم عددها إلّا هو سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وما هِي إِلّا ذِكْرى لِلْبشرِ} الضمير {هِي} يعود إلى {عدة} في قوله تعالى: {وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلّا فِتْنة لِلّذِين كفرُوا}.
أي أن هذه العدة، هي موضع ذكرى، وعبرة الناس.. كما علم منها أهل الكتاب مطابقة ما جاء في القرآن لما في كتبهم، والتزام هذه الكتب جميعها هذا العدد، دون تبديل فيه، أو تحريف له، فيما حرّف أهل الكتاب وبدلوا، لأنه لا مصلحة لهم في هذا التبديل، والتحريف.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى {سقر} في قوله تعالى: {سأُصْلِيهِ سقر}، ومع سقر الجنود القائمون عليها، وعدتهم تسعة عشر.. فسقر، والجنود القائمون عليها، هي ذكرى للبشر.
قوله تعالى: {كلّا والْقمرِ واللّيْلِ إِذْ أدْبر والصُّبْحِ إِذا أسْفر}.
{كلّا} هنا، نفى يحمل الرّدع والزجر، لأولئك الذين لم يجدوا في تلك الآيات التي تحذرهم من النار، وتخوفهم من جنودها- لم يجدوا في ذلك ذكرى وموعظة لهم.
وكلا، إنها ليست ذكرى للبشر، أي لمعظم البشر، إذ كان أكثر الناس على الضلال، وقليل منهم المهتدون، المؤمنون.
وقوله تعالى: {والقمر} قسم بالقمر.
وقوله تعالى: {واللّيْلِ إِذْ أدْبر والصُّبْحِ إِذا أسْفر} معطوفان على {القمر}، ومقسم بهما معه.. فهى ثلاثة أقسام، تجمع: القمر، والليل، والصبح.
وقد جاء القسم بالقمر مطلقا، دون ذكر حال من أحواله، أو صفة من صفاته.. إنه القمر، والقمر لا يسمى قمرا إلا مع تمامه وكماله..
وجاء القسم بـ: {الليل} مقيدا بظرف خاص، وهو إدباره، وتولّيه.. على حين جاء القسم بالصبح حال إسفاره، وظهوره..
وقد فرّق النظم القرآنى المعجز بين الحالين، حال إدبار الليل، وحال إسفار الصبح.. إنها لحظة واحدة، يلتقى عندها إدبار الليل، وإسفار الصبح، وقد وزّع النظم القرآنى هذه اللحظة، فجعل بعضا منها يذهب مع الليل الذاهب، وبعضا منها، يتراءى خلف الصبح المقبل.. ولهذا جاء لفظ {إذ} مع إدبار الليل {واللّيْلِ إِذْ أدْبر}.
وهذا يعنى الزمن الماضي من تلك اللحظة.. فلقد أدبر الليل، ومضى، وذهب سلطانه الذي كان قائما على تلك الرقعة المبسوط عليها من هذا العالم.. أما الصبح، فهو وليد جديد، يخطو خطواته نحو المستقبل، فهو زمن ممتدّ، ولهذا جاء الظرف المتلبس به بلفظ {إذا} التي تدل على الزمن المستقبل.. {والصُّبْحِ إِذا أسْفر}!! ولعل سائلا يسأل هنا:
وماذا وراء الجمع بين هذه الأقسام الثلاثة: القمر، والليل المدبر، والصبح المسفر؟ إن القرآن الكريم لا يجمع بين هذه العوالم إلّا وهو يشير من هذا الجمع إلى ملحظ، فيه عبرة، وعظة- فماذا يكون هذا الملحظ؟!
نقول- واللّه أعلم- إن القسم بالقمر، والليل المدبر، والصبح المسفر، هو إشارة إلى مبعث النبيَّ صلوات اللّه وسلامه عليه، وإلى ما بين يدى مبعثه وما خلفه، من مجريات الأحداث، التي تطل على الناس..
فالقمر- واللّه أعلم- هو إشارة إلى الرسالات السمأوية التي سبقت عصر النبوّة.. فقد كانت تلك الرسالات هي النور، الذي يشعّ في وسط هذا الظلام المخيم على العالم، وأن نور هذا القمر لا يمنح الناس رؤية كاشفة، وإن أراهم مواقع أقدامهم. وألقى في قلوبهم شيئا من الطمأنينة والأنس، ثم إنه لا يلبس أن يختفى، ويتحول عن الناس..
وإسفار الصبح هو إيذان بمبعث النبي، وأنه الشمس التي ستشرق على هذا الوجود، وأن أضواء شمس النبوة قد أزاحت ظلمة الليل عن هذا الوجود، وأنه سرعان ما تطلع الشمس فتملا الوجود ضياء، وتكسو العالم حلّة من بهاء وجلال، حيث تنكشف حقائق الأشياء، وتسفر عن وجهها لكل ذى بصر يبصر، ومن شمس النبوة المحمدية استمدّت الرسالات السابقة نورها من ضوء هذه الشمس، قبل أن يستقبل الوجود مطلع هذه الشمس، فلما طلعت محت بضوئها آية القمر، وكان على من يريدون أن يسيروا على هدى ونور أن يستقبلوا هذا النور، وأن يملئوا أعينهم به.
قوله تعالى: {إِنّها لإِحْدى الْكُبرِ نذِيرا لِلْبشرِ}.
الضمير في إنها يعود إلى {سقر}.
وهى إحدى منازل الكافرين والضالين يوم القيامة.. فإن جهنم- أعاذنا اللّه منها- لها سبعة أبواب، ولكل باب أهله الذين يدخلون منه إلى النار المعدة لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وإِنّ جهنّم لموْعِدُهُمْ أجْمعِين لها سبْعةُ أبوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مقْسُومٌ} (43- 44: الحجر).
وقوله تعالى: {نذِيرا لِلْبشرِ} تمييز لإحدى الكبر، أي أن سقر هي إحدى الكبر من جهة الإنذار والتخويف بها.. أي أنها من الآيات الكبرى، التي من شأنها أن تهز النفوس من أقطارها، وأن تبعث في القلوب الخشية والفزع من لقاء هذه الأهوال التي تطلع بها جهنم على أهلها، وفى هذا أبلغ نذير لمن يبصر النذر وينتفع بها..
قوله تعالى: {لِمنْ شاء مِنْكُمْ أنْ يتقدّم أو يتأخّر}..
هذا بدل من قوله تعالى: {للبشر} أي أن سقر هي نذير لمن شاء أن يتقدم فيؤمن باللّه، ويمضى على طريق الحق والهدى، كما أنها نذير لمن شاء أن يتأخر فيرتد على عقبه، ويغيب في متاهات الكفر والضلال.. اهـ.